منذ فترة قريبة كان يحدثني صديقي عبدالله هل تذكر محمد الصويغ قبل سنتين كان يجلس في مقهى جافا تايم كثيرًا، ولكنه كانت كرشته تمشي أمامه 🙂 ..
مُحمد الصويغ 26 عام، مهندس إلكترونيات طيران بمعهد الأمير سلطان لأبحاث التقنيات المتقدمة، وطالب ماجستبر بجامعة لفبرا بالمملكة المتحدة.
وبالفعل تبارك الرحمن خسر ثلث وزنه خلال سنتين، وشارك في هذا التحدي الأول من نوعه بالنسبة لهبماراثون 42.2 كلم، ويراه بأنه تحدي للنفس ويطمح به للحصول على نتيجة محسوسة.
نبذة بسيطة عن الماراثون؛
وأترككم عن تجربته حسب ما يرويها هو ..
قرأت كثيرا في تجارب عدائي الماراثون والاستعداد له، كان الأغلب متفقون على أن الماراثون ليس بالأمر السهل، ويتفقون أيضاً على أن أي إنسان يتمتع بصحة جيدة يستطيع إنهاء الماراثون. رأيت صوراً مقرفة لأقدام بعض العدائين بعد الماراثون وسمعت عن ما يسمى (بالارتطام بجدار التحمل Hitting the wall) حيث تنخفض مستويات الجلايكوجين في الجسم فـيَصِلُ إلى حالة إجهاد حادة ومفاجئة تمنعه من الاستمرار. ويذكر أن هذه الحالة تصيب حتى اللائقين بدنيا في الجزء الأخير من الماراثون نظرا للمسافة الطويلة التي يجب أن يقطعها باستمرار ودون توقف. لذلك يؤكد المختصون على أهمية التغذية السليمة قبل وأثناء وبعد الماراثون وعدم الاستهانة بذلك أبدا. حتى أني قرأت أن مجرد شعورك بالجوع أو العطش خلال الجري فهذا يعني أن الوقت متأخر جدا لتعويض ما فقده الجسم وسد احتياجاته. ونشأة الماراثون تاريخياً مستقاة من قصة المراسل الإغريقي الذي قطع مسافة مقاربة لمسافة الماراثون المتعارف عليها من أرض المعركة إلى أثينا لإعلان هزيمة الفرس. ثم سقط بعدها ميتاً! وأبشركم بحمد الله أنه قد شارك معي أكثر من عشرة آلاف عداء من 129 دولة ولم يمت منا أحد :).
كنت أنتظر الماراثون بفارغ الصبر برغم أني لم أعطه القدر الكافي من الاستعداد، فأطول مسافة قطعتها عدواً أو هرولة لا تتجاوز 15 كلم. بينما مسافة الماراثون تقارب ثلاثة أضعاف هذا الرقم! محاولة رفع هذا الرقم خلال أسابيع لن يجدي نفعاً كما يذكر الرياضيون. فلا ينصح بالعادة أن تزيد المسافة المعتادة بأكثر من 10% فالجسم لن يبني نفسه للمستوى المطلوب. كما أن الأسابيع القليلة التي تسبق الماراثون يجب أن لا تحتوي على جري لمسافات طويلة لم يعتد عليها الجسم لأن ذلك يضعف من قدرة التحمل أثناء الماراثون أكثر مما ينفعه. ونصبحة أخرى قرأتها كانت غريبة بعض الشيء وهي أن قوة الجزء العلوي من الجسم تساهم كثيرا في أداء عدائي الماراثون! لذلك اقتصرت على تمارين اللياقة القلبية البدنية وركوب الدراجة. وكانت رحلتي بالدراجة من لندن إلى باريس تسبق الماراثون بأسبوع ونصف ولم تكن منهكة للجسم فأظنها كانت فكرة جيدة بديلة عن التدريب. قضيت بعدها أسبوعاً أتمشى في شوارع باريس قاطعا ما بين 20-30 كلم في كل يوم. بعدها أظنني ارتكبت غلطة حيث أجهدت نفسي بتمرينٍ لياقي مكثف تسبب في تمزق عضلي في الظهر. لم يكن التمرين يتسبب في ذلك بالعادة لكني زدت في الأوزان والجهد والسرعة إلى مستوى عالٍ جدا لم أتعود عليه فكان ماكان.
سافرت إلى براغ وقضيت اليوم الذي يسبق الماراثون بالتجول في معرض الرياضة المصاحب للماراثون وإجراء بعض الفحوصات البسيطة لمستويات البروتين والسوائل في الجسم. واستلمت قميصي وحقيبتي وشريحة حساب الزمن. وعدت إلى الفندق وتناولت الكثير من الكربوهيدرات على العشاء كما ينصح المختصون.
في الصباح التالي استيقظت باكرا وتوجهت إلى موقع الماراثون فوجدته خالياً على عروشه! بعد التقصي اكتشفت أني أخطأت في المكان لأن نوع الماراثون الذي سجلت فيه سيبدأ في مكان آخر يبعد بضعة كيلومترات. فذهبت مشيا على الأقدام وتركت سيارتي في مواقف بعيدة نوعاً ما. وصلت إلى أرض المعركة لكني لم أتناول إفطاري كما كنت أخطط، فعوضت ذلك بتناول الحليب الذي كان يوزع مجانا هناك.
بدأ السباق *جزء من النص مفقود!* وانطلقنا في موكب لا أرى أوله ولا آخره. كان الجميع متحمساً ويركض بسرعة وكنت أتجنب الإسراع لسبب بسيط وهو أن لكل عداء سرعته الخاصة ونحن في ماراثون وليس في سباق. فكنت أحاول الحفاظ على مستوى سرعتي الخاص وكان ذلك محبطا حيث أنني أصبحت أضايق الناس الذين يتجاوزونني واحدا بعد الآخر! لكني كنت على يقين أن هؤلاء ما بين متحمس سيقف متعباً بعد برهة، أو عداء محترف لا يجدر بي أن أحشر أنفي بأنفه!
كان المنظر جميلاً والابتسامة تملأ الوجوه، وكانت الشمس الساطعة محمودةً في هذا الوقت وخفيفة الظل على جلود الناس.
استمر العدو السعيد لفترة من الزمن، تنوع العدائين العرقي والعمري كان عجيباً جدا. والكثير منهم شاركوا دعما لمنظماتٍ أو أنشطةٍ خيرية. أرى بعضهم شاركوا من بريطانيا من جمعيات خيرية محلية تعنى بالسرطان وغيره، وبعضهم من جامعتي حتى! بعضهم شارك دعما لطفل لقيط أو معاق يتبادلون دفعه وهو جالس على عربيته. وهناك من شارك فقط ليدخل السرور على بقية المشاركين بملابسه المضحكة وحركاته الغريبة.
حرصت وأنا أعدو أن لا أهتم كثيرا بالمسافة التي قطعتها لأنها ستضعني في صراع نفسي لا أحتاج إليه، فأنا أتوقع الوصول إلى خط النهاية بعد خمس إلى ست ساعات وهذا يعني ببساطة: “هروِل إلى اللا نهائية وما بعدها” فكان عليّ أن أصنع روتينا لحركة قدميّ وأثبّت السرعة ثم أنسى جزئي السفلي وأستمتع بالرحلة. كنت مستمتعاً مندمجاً حتى وصلت إلى الكيلو الخامس عشر حيث قررت التوقف لعمل بعض تمارين الاستطالة واستعادة النفَس العميق وارتشاف الماء ثم العودة بكل نشاط. لكن بمجرد توقفي دارت بي الدنيا وفقدت توازني وكدت أن أسقط! التمزق العضلي في ظهري أخذ يوالي طعناته ويجمّد حركتي! أصبت بالإحباط الشديد لأني لا أريد التوقف لهذا السبب السخيف، فقدماي لم تشعران بعد بأي تعب وهما المسؤولتان عن إيصالي إلى خط النهاية! كل ما أرجوه من ظهري أن يبقيني منتصبا فقط! مر بجانبي عدّاء لطيف ربّت على كتفي وشجعني على الاستمرار فكنت بالكاد أجمع النفس لأرد عليه. حاولت حل المشكلة وإكمال العدو ووصلت إلى حل، استطعت أن أعدو مرة أخرى لكن بمجرد توقفي أو التفاتي إلى الوراء يشتد الألم أكثر.
انتصفت الماراثون *جزء من النص مفقود* وبدأت قدمي تعتاد على طريقة الهرولة لكن بالمقابل كان الجسم يبدو كأنه يرفض أن يحرك العضلات بغير الحركة التي اعتاد عليها. حيث إن القفز أو الإسراع أو التمايل أو صعود الرصيف أو حتى رفع القدم لمستوى أعلى قليلا، كل ذلك كان مجهداَ كأنني جالس مسترخٍ وأريد القيام فجأة. قرأت أن أجزاء من الجسم في هذا المستوى تتعرض لبعض التلف جراء تكرار الحركات والضغط على المفاصل لعدة ساعات مما يتطلب أسبوعين – أقل أو أكثر- من الاسترخاء بعد الماراثون لإعادة ترميم العظام وبناء العضلات.
في الماراثون يتفاوت الناس في سرعاتهم لكن بعد النصف الأول منه تنشأ ألفة بينك وبين العادين بجوارك نظرا لتقارب المستوى اللياقي. تجاوزت صاحبي الذي شجعني عندما توقفت وأبدى سروره لعودتي وشكرته ثم تجاوزته. ووجدت نفسي مع مجموعة العدائين المتطوعين من أجل الطفل اللقيط، يبدو من لغتهم أنهم من شرق أوروبا لكنا كنا نتمازح بالانجليزية بين فترة وأخرى. كما أن المدينة جميلة جدا بعمرانها، بنهرها، بأفقها المليء بلوحات الريف التي تجمع الأخضر والبني الغامق ما بين الجبال الطبيعية والعمران.
اشتدت الشمس فطفقنا نعصر الإسفنج المشبّع بالماء البارد والتي يوزعها متطوعون مع الماء وعصير الليمون والموز والبرتقال المقطّع الجاهز. فكنا نمر ونلتقط الموزة ونغمسها غمسة في الملح وأخرى في السكر ونبتلعها ثم نلتقط كأس الماء فعصير الليمون فالإسفنج. ووضعوا أيضاً دورات مياه متنقلة لمن أقلقلته نداءات الطبيعة!
بعد أن تجاوزنا الكيلو متر الثلاثين أصبنا بالإنهاك. وبدأت تتطاول الكيلو مترات، أو حتى نكون أكثر صراحة: تباطأت الأقدام، وتقاربت الخطى، و(والعبارة تخصني وحدي هنا) أعيانا الجوع. فوضعت سماعة الأذن لأسلي نفسي بسماع أي شيء، أي شيء يملأ الفراغ ويأخذ العقل بعيداً عن المضمار والرتم الذي لا نهاية له. بدأت أشعر أن الوقوف أصعب من المشي فقللت مرات الوقوف للارتواء أو تناول السكريات والأملاح.
بقيت تسعة كيلو مترات وتحولت الهرولة إلى دقيقة مشي ودقيقة هرولة، ثم أصبح المشي السريع سيّد الموقف، كان العديد من الناس يقفون مشجعين ويصفقون لنا لكي نهرول مرة أخرى، وكنت أمر على بعضهم فأقول أن عضلاتي أصبحت ترفض ذلك، حتى وصلت إلى رجل صفق لي وقال: لم يبق شيء أبدا! مجرد كيلو مترات بسيطة، لا تستحق التوقف، أكمل! فعادت الطاقة لبعض الوقت. بدا كل مشجع كأنما يحمل كأسا من وقود يملأ به شيئا من الخزان يكفي حتى أصل إلى المشجع الآخر وهكذا!
لم يتبق على الماراثون إلا ثلاثة كيلومترات، كانت عجيبة غريبة! فقد كان لها أثرا على العقل والنفس لم أشعر به من قبل! دع الجسد الآن، أنا أشعر بشيء آخر! العاطفة كانت جياشة إلى أبعد حد، كنت أرى طفلا يصفّق لي فأدمع، كنت أتذكر أصحابي القدامى فأموت شوقاً، غاص العقل في أفكار لا قاع لها، وكأنما بدأت نفسي بالبوح بأسرارها إلى نفسها! وصفي يبدو غبيا بعض الشيء لكني لم أجد وصفاً آخر. أو ربما لم يتح لي صياغة موقفي آنذاك حتى تلاشى المؤثر وبقيت النتيجة فقط. ومما طمأنني أني لم أكن الوحيد الذي يمر بهذه الحالة بين عدائي الماراثون!
وصلت إلى جماهير الناس وتغيرت وحدة اللوحات الإرشادية من الكيلومتر إلى المتر. تذكرت حينها أني يجب أن أتبسم لأن الكاميرات ستكون بانتظاري، وكنت وقتها أمشي مشيا شبه سريع لكني قد أبقيت مخزونا من طاقة الجري ما يكفي لمئة أو مئتي متر، وهي كافية – بإذن الله – للتظاهر أمام الكاميرات وهتافات المصفقين أني ما زلت بكامل حيويتي ونشاطي!
وصلت، نعم وصلت! وقفزت عند خط النهاية -أو أزعم أني قفزت- *جزء من النص مفقود* ثم قلدوني الوسام والتقطوا لي بعض الصور وخرجت بعدها تالف الجسد أبحث عن سائق أجرة يوقفني غاضبا على بعد بضعة كيلو مترات من موقف السيارة لأن جوالي تعطل ولم أستطع تحديد مكان سيارتي بدقة. حينها مشيت أطول ثلاثة كيلو مترات في حياتي! وصعدت أطول درج فندق -من طابقين- في حياتي. في اليوم التالي عرفت لماذا تنزل جدتي الدرج على جانبها، ولماذا تتحرك ببطء، ولماذا لا تكمل ثني ركبتها، ولماذا أسمع طقطقة عظامها! وعرفت لماذا مع كل هذه التسهيلات، تتألم! حفظها الله ومد في عمرها وصحتها 🙂
كنت محظوظا على الأقل لأني لم أرتطم بجدار الماراثون!
انتهى!
تجدون محمد في تويتر هنا
لا أذكر في الحقيقة آخر مرّة قرأت بهذا النهمّ، وهذه المتعّة.. اعتقد أنّك
تمكّنت من الإيمان العظيم بقدرتك، هذه الثقّة وهذا العالم بالمقابل.. كل هذا
العالم الذي قطعته، النساء والرجال والأطفال، إنّك الآن كلّما أردت.
نيّالك في نفسك العظيمة وقوّتك ??